أزمة الكساد العظيم : عندما صارت أكياس الطحين الزيّ الأكثر شعبية في أمريكا
نظرة سريعة على محتويات المقال:
تعتبر أزمة الكساد العظيم أو الكساد الكبير واحدة من أسوء الفترات العصيبة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية والتي خلفت ورائها أضرارا إقتصادية وإجتماعية وسياسية لا يمكن تصورها.
كان الكساد الكبير (Great Depression) أزمة اقتصادية رهيبة نشأت في الولايات المتحدة بعد الانهيار المالي في أكتوبر 1929 في وول ستريت. استمرت هذه الأزمة خلال الثلاثينيات، مما تسبب في البطالة والفقر وإفلاس البنوك والصناعات وانتشار الاضطرابات الاجتماعية.
حدث انهيار عام 1929 بسبب الانخفاض المفاجئ والمتسارع الذي عانت منه أسعار أسهم الشركة في سوق الأوراق المالية، وهي المنظمة التي تتم فيها المعاملات المالية.
استمر انخفاض الأسعار لأسابيع، مما أثار الذعر بين رجال الأعمال والمستثمرين. خشي الكثير من خسارة أموالهم وأرادوا الخروج من المخاطر القادمة والمتوقعة في أسرع وقت ممكن.
ما جاء مع ذلك كان كارثة اقتصادية لم يكن لدى الشركات أموال للاستثمار فيها. تم فصل العمال وتركوا بدون أجر. البنوك التي أقرضت الأموال لم تتمكن من استعادتها واضطرت الكثير من البنوك إلى إغلاق أبوابها وإعلان الإفلاس.
إزاء هذا السيناريو انتشرت الأزمة في أنحاء أمريكا ثم ضربت عددًا كبيرًا من الدول حول العالم. عاش الكثير من الناس في ظروف محفوفة بالمخاطر وكان عليهم أن يبحثوا بشدة عن وظيفة تسمح لهم بكسب لقمة العيش والحفاظ على كرامتهم.
في عام 1932، انتخب الأمريكيون فرانكلين دي روزفلت رئيسًا، الذي وضع خطة تسمى الصفقة الجديدة New Deal لإنهاء عدم الاستقرار. تم قبول الخطة من قبل السكان، لكن نتائجها لم تخرج أمريكا الشمالية من الصعوبات. استغرق الأمر حتى الحرب العالمية الثانية لرؤية الصناعة تعمل بكامل طاقتها مرة أخرى.
إقرأ أيضا : ازمة الارانب في استراليا وكيف احتلت البلاد وتسببت في كارثة
أسباب الكساد العظيم :
لقد نشأت أزمة الكساد العظيم أو الكساد الكبير بسبب عدة عوامل متداخلة فيما بينها، وهي كالتالي :
صعود المضاربات المالية في وول ستريت :
أدى نمو الثروة في عشرينيات القرن الماضي إلى جعل العديد من الأفراد مهتمين بالاستثمار في سوق الأوراق المالية. رغبة منهم في تحقيق أرباح سريعة، اشترى الكثيرون الأسهم بأموال مقترضة وشهدوا ارتفاع عوائدها. لكن هذا لم يكن قائمًا على القيم الفعلية للشركات، فقد تحول كل شيء إلى مقامرة. فجأة، وقع انهيار أكتوبر 1929.
انهيار وول ستريت (1929) :
بدأ الانهيار في يوم “الخميس الأسود” ، في 24 أكتوبر 1929، وهو اليوم الذي تم فيه تبادل ملايين الأسهم وخسرت قيمها ما يصل إلى 11٪ وعلى الرغم من محاولة المصرفيين ورجال الأعمال تهدئة الوضع وإصلاح ما يمكن إصلاحه، إلا أن الأسهم إستمرت في الإنخفاض في الأسبوع التالي.
استمر انهيار الأسهم في 28 و 29 أكتوبر. ثم أصبح معروفاً أن الهبوط الهائل في سوق الأسهم سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد. باع المستثمرون أسهمهم بخسارة. ثم لم يكن لديهم ما يكفي من المال لتسديد القروض إلى سماسرة البورصة والبنوك. في غضون شهرين، تم تخفيض القيم إلى النصف وأفلست العديد من الشركات وصغار المستثمرين.
إقرأ أيضا : التجارب النازية على البشر : تجارب مروعة للحفاظ على العرق الآري
الإفراط في الإنتاج والعرض الزائد :
قد يبدو الأمر غريبًا، إلا أن الأزمات الاقتصادية في النظام الرأسمالي تنتج عن وفرة المنتجات في السوق. إذا كان العملاء لا يشترون كل ما يتم إنتاجه، يتعين على البائعين خفض الأسعار.
عندما يحدث هذا، يمكن أن تقع الميزانية العمومية للشركات في خسائر. لذا فهم لا يستثمرون لتوسيع أعمالهم وتسريح العمال. البطالة تجعل الناس لا يملكون المال ولا يشترون المنتجات. وهكذا تعيد الدورة نفسها وتتفاقم الأزمة.
حدث هذا أولاً مع الزراعة ثم مع الصناعة خلال فترة الكساد. زاد المزارعون الأمريكيون الإنتاج في وقت الحرب العالمية الأولى. عندما انتهت الحرب، أنتجوا أكثر مما يستطيعون بيعه، لأن أوروبا توقفت عن استيراد الكثير من المحاصيل. كما لم يجد الإنتاج الصناعي عدد المستهلكين الذي يحتاجه، مما دفعهم إلى البيع بخسارة.
أخطاء الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة :
رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة. أدى ذلك إلى زيادة قيمة الديون وجعل منح القروض أو تلقيها أكثر صعوبة. بالإضافة إلى ذلك، سمح للبنوك بالانهيار ولم يخطط لإجرائات وتدابير إحتياطية لإنقاذها. فشلت العشرات من البنوك الصغيرة والإقليمية وألست، مما أدى إلى تبخر مدخرات الملايين من الناس.
وضع التعريفات الجمركية في التجارة الدولية :
التعريفات هي ضرائب يتم دفعها للبلدان من أجل استيراد البضائع أو تصديرها. أنشأ الكونجرس الأمريكي تعريفات جمركية جديدة في عام 1930 من أجل زيادة تكلفة المنتجات الأجنبية. بهذه الطريقة، سيكون لدى الناس أسباب لشراء المنتجات الوطنية وسيؤدي الطلب إلى جعل الشركات تنتج المزيد.
ما حدث في الواقع هو أن البلدان المتضررة الأخرى فرضت أيضًا تعريفات انتقامية. كانت نتيجة هذه الإجرائات انهيار أكثر من 60٪ من التجارة الدولية بين عامي 1929 و 1934.
إقرأ أيضا : مجاعة الصين الكبرى التي جعلت الصينيين يأكلون كل شيء حرفيا
ظاهرة الجفاف :
على الرغم من أنه ليس سببًا مباشرًا للكساد، إلا أن الجفاف الذي ضرب السهول الوسطى في أمريكا الشمالية زاد الطين بلة. دمرت هذه الكارثة البيئية العديد من المزارعين ودفنت البلدات والمزارع في الرمال في ولايات تكساس وأوكلاهوما وكولورادو ونبراسكا وداكوتا الجنوبية.
لم يتمكن المزارعون من إلغاء اعتماداتهم أو دفع الضرائب. فقد الكثيرون ممتلكاتهم أو هجروها للهجرة إلى المدن بحثًا عن عمل. لكن في المدن كان من الصعب أيضًا العثور على عمل.
إقرأ أيضا : الإنفلونزا الإسبانية : أول جائحة عالمية في التاريخ الحديث
ملخص تاريخي للأزمة :
الخلفية (1918-1929) :
بعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، برزت الولايات المتحدة كقوة وشهدت نموًا اقتصاديًا غير عادي. كان الازدهار قائمًا على زيادة الإنتاجية الصناعية وتوسعها في النظام المالي.
كان الأمريكيون يتمتعون بدخل أفضل في وقت ظهرت فيه منتجات جديدة. أصبحت الاختراعات مثل الراديو والسيارات والأجهزة المنزلية شائعة. انتشر الإعلان من خلال وسائل الإعلام مثل الراديو والأفلام، مما أدى إلى ظهور مجتمع استهلاكي، حيث أراد الكثيرون أن يكونوا عصريين.
قدمت البنوك ائتمانًا حتى يتمكن عملاؤها من شراء ما يريدون دون الحاجة إلى الدفع على الفور. وسرعان ما تم استخدام هذه الاعتمادات لشراء الأسهم في سوق الأوراق المالية. لم يرغب في ذلك رجال الأعمال فحسب، بل أراد الناس العاديون أيضًا جني الأرباح دون عمل وعناء، كما فعل المضاربون لسنوات.
كانت الأمور تسير على ما يرام، ولكن في الواقع تكونت فقاعة. الفقاعات المالية هي زيادات غير معقولة وغير مبررة في أسعار الأسهم. وفجأة، انفجرت تلك الفقاعة.
إقرأ أيضا : تاريخ العبودية في امريكا : الجانب المظلم لبلاد العم سام
كساد فترة في الثلاثينيات :
سرعان ما شعر الناس بعواقب انهيار عام 1929. فقد الناس ثقتهم في البنوك وسعوا إلى إخراج أموالهم. بين عامي 1929 و 1933 ، أفلست مئات البنوك. توقف الصناعيون عن الاستثمار في الإنتاج، حيث لم يكن لدى الناس أموال لشراء المنتجات. والأسوأ من ذلك، أن أصحاب المصانع الذين اضطروا إلى تقليل الإنتاج، قاموا بتسريح المزيد من العمال.
بحلول عام 1932، تقلص حجم الاقتصاد الأمريكي بمقدار الربع. انخفض الإنتاج الصناعي بمقدار النصف. وبلغت نسبة البطالة في عام 1933 25٪ وانخفض الإنتاج الزراعي بنسبة 70٪، كما تضرر من الجفاف الذي أصاب حقول السهول الوسطى في تلك الدولة. توقفت الولايات المتحدة عن استيراد العديد من السلع والخدمات، مما أضر بالمصدرين الأجانب. وأخيرا انتشرت الأزمة في جميع أنحاء العالم.
إقرأ أيضا : قصة إبادة الهنود الحمر : إبادة جماعية عرقية يندى لها الجبين
موضة صنع الملابس بأكياس الطحين :
أدت أزمة الكساد العظيم في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية إلى ارتفاع نسبة البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 25%، بحيث كان حوالي 15 مليون أمريكي عاطلين عن العمل، وافلست نصف بنوك البلاد تقريباً.
أمام هذا الوضع الاقتصادي السيئ، لم تكن فكرة إعادة استخدام الملابس بصفتها أكثر طريقة لتوفير الموارد للعائلات مناسبة أكثر لمجابهة الأزمة، كونها أثرت أيضاً على الأقمشة نفسها التي تصنع منها الملابس، الأمر الذي دفع الأمريكيين إلى استخدام عقولهم لابتكار حلٍّ يخرجهم من أزمة الأقمشة الباهظة الثمن.
وبالنظر إلى الفرص القليلة لشراء أقمشة أو ملابس جديدة، توصل الأمريكيون إلى فكرة استخدام أكياس الطحين والمنتجات الغذائية من أجل صناعة الملابس، بحيث استفادت العائلات الأمريكية من القماش القطني المُستخدَم في أكياس الطحين والبطاطس والأعلاف وغيرها من المنتجات.
كان هذا الابتكار في الحقيقة قديماً، إذ بدأت هذه الممارسة بالفعل منذ القرن الـ19 في المناطق الريفية، باستخدام مواد أخرى مثل الخيش، إذ كانت حينها المنتجات الغذائية تُباع في براميل خشبية، ولكن تم استخدام أكياس قطنية أرخص، ما سمح بإعادة استخدامها أيضاً في صناعة المناشف واللحف، وغيرها من الضروريات المنزلية.
تم صنع الفساتين والقمصان والأزياء الآخرى من قبل العائلات الأمريكية من خلال أكياس الطحين، في هذا الصدد كتب المتحف الوطني للتاريخ الأمريكي أنه “بأكياس الأعلاف وأكياس الطحين، ارتقت الموضة إلى مستويات جديدة من الإبداع، وحوّلت تلك الأكياس المتواضعة إلى فساتين وملابس داخلية ومناشف وستائر وألحفة وغيرها من الضروريات المنزلية”.
بينما ظلت هذه الممارسة حلّاً لمجابهة الفقراء في أمريكا الأزمة الاقتصادية، بحيث انتشرت الموضة الجديدة التي كانت عبارة عن ملابس بيضاء وملابس أخرى يمكنك أن ترى عليها شعار الشركات التي باعت منتجاتها في تلك الأكياس المعاد استخدامها.
إقرأ أيضا : الإبادة الجماعية الأرمنية : مجزرة وحشية راح ضحيتها مليون ونصف شخص
الكساد وصعود النازية في أوروبا :
ضربت أزمة الكساد العظيم ألمانيا أيضا عندما قطعت البنوك الأمريكية قروضها.كانت الصناعة الألمانية تعتمد على الأموال الأمريكية للتعافي، وكانت في ورطة حقيقية. بل وأكثر من ذلك، بدأت المؤسسات الأمريكية في المطالبة بدفع القروض مع السلف.
بسبب نقص رأس المال، تقلصت المصانع الألمانية أو اختفت وتلاشت. العمال المسرحين لم يكن لديهم المال للإنفاق. انخفضت الأسعار وانهار الاقتصاد. اجتاح الفقر واليأس العائلات، مما جعلها تفقد الثقة في الديمقراطية وتمهيد الطريق أمام السياسيين المتطرفين لتقديم الحلول.
في هذه البيئة ظهرت شخصية أدولف هتلر والحزب النازي. أدت شعبيتهم إلى أن يصبحوا أكبر حزب في البرلمان في عام 1932، بينما تم تعيين أدولف هتلر مستشارًا في عام 1933. تسببت تلك الحكومة بعد ذلك في أزمة سياسية عميقة في أوروبا أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
نتائج وعواقب أزمة الكساد العظيم عالميا :
تسببت أزمة الكساد العظيم في العديد من العواقب الوخيمة في مختلف المجالات وكانت لها تداعيات لا تحمد عقباها، أبرزها :
- انخفض الإنتاج الصناعي في البلدان المتقدمة وانخفضت التجارة الدولية.
- فقدت الدول المنتجة للمواد الأولية الدخل بسبب انخفاض الأسعار وانخفاض صادراتها.
- انخفض توافر القروض في جميع أنحاء العالم، لذلك دخلت العديد من البلدان في أزمات ديون.
- ازدهرت النظرية الاقتصادية الكينزية. وأكد جون إم كينز أن على الدولة التدخل في أوقات الأزمات لموازنة الطلب وتحفيز الاستهلاك بين السكان وخلق فرص العمل.
- ساهمت الضائقة الاقتصادية في أوروبا في صعود الحركات السياسية ضد الرأسمالية والليبرالية. ثم اكتسبت المقترحات الفاشية والشيوعية قوة في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية.
إقرأ أيضا : ظاهرة تصوير الموتى : صور مرعبة للموتى وذكريات من العالم الآخر
العواقب السياسية للكساد الكبير في الولايات المتحدة :
انتخاب فرانكلين ديلانو روزفلت رئيسا :
كان الجمهوري هربرت هوفر رئيساً عندما حدث الانهيار عام 1929. ولأنه كان مناصراً لأفكار السوق الحرة، لم يكن يريد تدخل الحكومة لنزع فتيل الأزمة. هذا هو السبب في أنه تم إلقاء اللوم عليه لعدم اتخاذ تدابير لوقف الكارثة.
ثم نظر الناس بإيمان إلى ترشيح الديموقراطي فرانكلين روزفلت في عام 1932. وكان قد وعد باتخاذ إجرائات ملموسة لخلق فرص العمل وإنعاش الاقتصاد. انتخب وبدأت ولايته في مارس 1933.
الترويج ل “الصفقة الجديدة” كحل للأزمة :
تحت هذا الاسم “الصفقة الجديدة”، عُرِفت السياسات والمشاريع التي روج لها الرئيس روزفلت للتخفيف من المشاكل الناجمة عن الكساد الكبير وتحفيز النشاط الاقتصادي. ومن أبرز قراراته :
1 – إدارة الأشغال العامة: وكالة تم إنشاؤها لتمويل بناء الجسور والسدود والمدارس والمستشفيات.
2 – قانون التكيف الزراعي: منح إعانات للمزارعين لإنتاج كميات أقل. كان الهدف من ذلك رفع أسعار المحاصيل عن طريق تقليل العرض.
توسيع دور الحكومة ووضع اللوائح الاقتصادية :
زادت برامج الصفقة الجديدة من مسؤولية الحكومة في حياة المواطنين. لتلبية الاحتياجات الاقتصادية الملحة وتنظيم الممارسات المالية، تم إنشاء الوكالات التالية :
الضمان الاجتماعي (قانون الضمان الوطني): أنشأ برنامج الضمان الاجتماعي من خلال معاشات العمال المتقاعدين ، وكذلك تمويل التأمين المؤقت للعاطلين عن العمل.
الهيئة الوطنية للأوراق المالية والبورصات: مسؤولة عن مراقبة البورصة ضد التلاعب المحتمل والممارسات المالية السيئة.
إقرأ أيضا : كارثة دواء الثاليدوميد : أكبر كارثة طبية في التاريخ الحديث